ما أحوجنا الى سماع مثل هذه الكلمات التالية وفهمها بعمق شديد فإيزيس ما تزال تشرق بدموعها ..ما تزال تبحث عن اوزيريس الذي عشق حياة الأموات ورفض الخروج الى النهار بعد أن مزقته الأيام والليالي وأصبح من الصعب جمع اشلائة ولكن هذا ليس من المستحيل..نحتاج فقط الى أن نرفع شعار "حب مصر هو الحل" نحتاج أن نفهم وان نعمل وان نجد ونجتهد ولا نفكر فقط في يومنا هذا و إنما ننظر الى الأجيال القادمة..نمنحهم الأمل في العيش في مستقبل أفضل ولنعلم أن الأمم إنما ترتقي كلما تخلت عن أهدافها الذاتية البسيطة وتجمعت حول فكرة أو مشروع مشترك كبير..فلنجعل مشروعنا وهمنا الارتقاء بمصر..ومن خلال الأسطر التالية والتي اقتبستها من مقاله للراحل العظيم أسامة أنور عكاشة من مقالته الأهم "ايزيس تشرق بدموعها" بجريدة الأهرام 10 مايو 2007 يرسم لنا صورة معبره بالكلمات عن مصر الممزقة وكيف لا يمكن حل مشكلتها ألا بالحب والعمل من اجلها ..أترككم للاستمتاع بهذه الكلمات المحفزة علنا نؤمن بها.
(( تحكي أسطورة إيزيس و اوزيريس في الميثولوجيا المصرية القديمة, كيف نذرت ايزيس نفسها للبحث عن أشلاء جسد أوزوريس زوجها وحبيبها الذي قتله ست الشرير ومزق جسده ليبعد أعضاءه أشلاء في أربعة أركان الأرض! وراحت الزوجة الوفية العاشقة التي ترفض التسليم بموت أوزير تجوب السهول والوديان وتبحث في كل الأرجاء لتلملم الأشلاء وهي تبكي (تقول الأسطورة إن دموعها هي التي شقت نهر النيل وفاض بها), وحين اكتملت الأجزاء وصارت المزق جسدا كاملا دفنته إيزيس ليتحول إلي إله خالد لا يموت!
ولعلي لا أبني علي فرض خيالي حين أزعم أن ترددات الأسطورة في الوجدان المصري القديم كان ملهما لعملية جمع أشلاء أخري قام بها الفرعون مينا ـ ناعرمر الذي أراد أن يوحد الولايات أو الإقطاعيات المبعثرة بين شمال مصر وجنوبها ـ ذلك الذي عرفته لنا كتب التاريخ المدرسي بالوجهين القبلي والبحري ـ واستطاع مينا أن يجمع أشلاء الوطن ويوحد القطرين ليقيم وطنا في مصر هو أقدم أوطان الأرض وينشئ في هذا الوطن دولة هي أعرق دولة في التاريخ.. ومن الوطن والدولة التي كونت أقوي سلطة مركزية عرفتها الشعوب ولدت الأمة المصرية!
هذه الأمة التي ينفي دراويش الفتح العربي عنها صفة الأمة الموحدة ويدعون ـ كذبا أو وهما ـ أن مصر الأمة لم تكن إلا بعد الفتح العربي, لذا فلابد أن تلحق ـ قسرا واعتسافا ـ بقومية أخري تنفي المصرية أو تنحيها جانبا في أضعف الإيمان! في حين أن وقائع التاريخ الموثق والثابت علي جدران المعابد والمسلات وبين طيات لفائف البردي تروي لنا كيف استطاع مينا قبل بزوغ عصر القوميات في القرون المتأخرة أن يُدشن ميلاد القومية المصرية, أقولها برغم نفوري من اصطلاح القومية الذي لا يخلو من إحالة الى مركب عنصري فج..وذلك قبل ثلاثين قرنا من قيام الوحدة الايطالية والوحدة الألمانية! أي أن مينا المصري سبق بسمارك الألماني والثالوث الايطالي كافور ـ ماتزيني ـ جاريبالدي, وأكد أن جمع أشلاء الوطن وإقامة الدولة الموحدة هو استجابة للواقع الجيوبولوتيكي الذي يفرض هوية خاصة ومميزة لمواطني هذه الدولة!
في المقابل نري أن الواقع الجيوبولوتيكي لم يستطع فرض هوية وطنية خاصة ومميزة للمنطقة الواقعة بين سلسلة جبال أطلس وجبال طوروس وبين شمال إفريقيا وجنوب الجزيرة العربية..لان مقومات الدولة الواحدة أو الموحدة غير موجودة وسمات الوطن الواحد غير متوفرة!
ربما وجدت عناصر تؤكد وجود ثقافة عربية سائدة فهناك بلا شك وحدة ثقافية متحققة بالفعل وأهم تجلياتها ماثلة في وحدة اللغة واللسان والابداع الأدبي والفني..كما تتشابه أنماط السلوك وبعض قوالب التفكير( تتشابه ولا تتطابق)..وربما كان هناك تقارب في المصالح(تقارب وليس اتفاقا)..وهذا التقارب لا يؤدي بنا لأكثر من التفكير في إنشاء نوع من مؤسسات التعاون الاقتصادي(السوق العربية المشتركة مثلا)..فهذا غاية المتاح, وللأسف يتعذر ويتعثر عند محاولات التنفيذ, ذلك أن هناك حقائق خشنة لا يريد الحالمون ودراويش المد القومي العربي, وكنت واحدا منهم الى أن بدأت عملية المراجعة التي فرضتها علي الأحداث الغريبة والمدهشة للعرب الأمجاد ذوي الشان والشنشان بدءا من احتلال الكويت وعاصفة الصحراء وحفر الباطن ووصولا الى الحرب الأهلية في العراق ونذر مثيلاتها في لبنان.
هذه الحقائق الخشنة تقول إن ما يطلق عليه العالم العربي منقسم في الواقع إلى قسمين: قسم غني ينعم بثروات النفط والغاز وقلة عدد السكان..وقسم فقير يعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية متفاقمة وأزمات تضخم سكاني متفجر..وعرب القسم الأول ينظرون بريبة وحذر إلى دعاوي العروبة التي تعني في نظرهم إعادة توزيع الثروة النفطية.. ويبادلهم عرب القسم الثاني نظرات الغضب والحسد! ويصبح علي أبناء القسم الأول أن يهربوا من مطالبات الوحدة أو الاتحاد أو أن يطلبوا هم من أبناء القسم الثاني أن يؤجروا لهم أوطانهم خصوصا تلك التي كانت ترود وتقود وتعلم حينا من الدهر.. ليعوضوا فيها مركبات النقص القديمة!
ونبقي هنا في مصر مطالبين أمام أجيالنا القادمة, أن ننفض عن أدمغتنا أضغاث أحلامنا القديمة التي همنا فيها زمنا مع مخدر تعاطيناه لدرجة الإدمان, فصور لنا تلك الجنة السراب التي حلم بها أتباع حسن الصباح الذي كان يروضهم بالحشيش الذي يهيئ لهم في خدره الناعس أن المروج الخضراء المحيطة بقلعة الموت هي الجنة الموعودة التي تنتظرهم طالما امتثلوا وأطاعوا ونفذوا مهام الاغتيال!.
كالحشاشين في قلعة حسن الصباح كنا نحسب الأمة العربية الواحدة..ذات الرسالة الخالدة -بنص شعار حزب البعث العربي الاشتراكي- والتي تبدو متاحة عبر مواكب الانتصارات حتى أعطيناها اسم الولايات المتحدة العربية وشربنا في صحتها أنخاب النشوة والثقة.. كما نحسب أنها الجنة الموعودة..ما علينا إلا أن نقفز من أسوار الموت لنرتع في أحضانها..وقد قفزنا..فكانت المأساة!.
نبقي هنا في مصر مطالبين أمام أبنائنا وأحفادنا بأن نفعل كما فعلت إيزيس.. فنجمع الأشلاء التي تبعثرت حين تمزقت فكرة الوطنية المصرية لتستبدل بانتماء مستعار لقومية مزعومة..وعلينا أن نعيد لصق الأجزاء بالأجزاء لنبعث الكيان المصري من جديد..ونعمده بدموع إيزيس التي ملأت النهر المقدس..إن مصر تشرق بدمعها وتغص به وتهيب بنا أن نعود إلي أحضانها.. فقد تشردنا في المنافي.. وأعياها البحث عنا..وها هي تنادي فهلا لبينا نداها؟.. أعلم أنني ربما فتحت علي نفسي بابا من أبواب الجحيم وأن هناك الكثيرين..آلافا..وربما ملايين قد يسلكونني في عداد المارقين الذين انقلبوا علي ذواتهم وخانوا أحلامهم القديمة وراحوا يسفهون أحلام الآخرين... لكني لن أتنصل من مراجعتي ولو سميت تراجعا.. وفي الوقت ذاته لن أتبرأ من ثقافة عربية أنتمي إليها وأكتب بحرفها وأعلن في النهاية أن الثابت وغير المتحول في موقفي أنه لا تعارض ولا تناقض بأي شكل من الأشكال بين عروبة الثقافة ومصرية الهوية! وإذا رأي آخر غير رأيي فلا بأس..وأتمثل هنا بقول الإمام الشافعي الشهير إن رأيي صواب يحتمل الخطأ..ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.))
وبعد أن استمتعنا بهذه الكلمات..استحلفكم بالله الآ تمزقوا اوزيريس أكثر من ذلك وان تجمعوا أشلائه حتى تجف دموع ايزيس وحتى يخرج اوزيريس الى النهار .