هو أبو الثوار الذي ترك بصماته الواضحة على صفحات الجهاد من اجل
العروبة والإسلام ، حيث شارك بحماسة فى تحرير بقاع غالية من الوطن العربي ، ونذر
كل ساعة من أيامه من اجل مكافحة الدخلاء المستعمرين .
كان عزيز المصري نموذجا من الأبطال نادر الوجود ، عاش بأخلاق
وسلوكيات الفرسان فى تعامله مع كل من عاشرهم من الأهل والأصدقاء ورفقاء السلاح .
وكان إنسانا يكره الخيانة ، ويتمسك بالخط المستقيم فى حياته العامة والخاصة ، مهما
كان صعباً .
شهد عزيز المصرى عدة عصور ، وكان صانعا للعديد من الثورات أو مشاركا
فيها . شارك فى صنع جزء كبير من تاريخ الشرق الأوسط كله ، كان عزيز المصرى رفيقا
لمصطفى كمال أتاتورك ، وقاتل مع الجيش التركى فى الجبل الأسود وقاتل الإيطاليين فى
ليبيا ، عين رئيسا لأركان أول جيش عربى فى الحجاز ، ثم وزيرا للدفاع . وهو الأب
الروحى للضباط الأحرار فى مصر ، حيث عايش بداية الحركة والتمهيد للثورة ، وعاصر
الأيام الحاسمة قبل قيامها ، وبعد أن وضعت أقدامها فى الحكم وكان جمال عبد الناصر
وأنور السادات والضباط الأحرار يستشيرونه فى امور الثورة ، وكان المفروض أن يكون
هو رئيساً للثورة المصرية ، إلا انه رفض ليحل محله اللواء محمد نجيب .
ولد عزيز المصرى عام 1880 م واسمه الحقيقى ( عبد العزيز زكريا على )
، وكان فى العاشرة من عمره عندما توفى والده وكانت والدته تحنو علية بشدة ولكنها
فارقت الحياة بعد أبيه بخمس سنوات ، فكفلته اخته حرم على باشا ذو الفقار محافظ
القاهرة . درس المرحلة الابتدائية فى المدرسة التوفيقية وقد أتم الدراسة
الابتدائية عام 1898 م وحصل على البكالوريا وكانت رغبته أن يلتحق بالكلية الحربية
ودخل (المهندس خانة) المصرية لدراسة الرياضيات وعلم المثلثات والعلوم الحديثة استعدادا
للالتحاق بالكلية الحربية فى اسطنبول ، وهناك أطلقوا عليه ( قاهرة لى عزيز على )
اى عزيز على المصرى وكان باستمرار من الأوائل فى الكلية الحربية التركية مما ساعده
على الالتحاق بكلية أركان حرب التى تخرج فيها عام 1905م .
وأثناء سنوات الدراسة أعجب بالضباط الألمان ، الذين كانوا يقومون
بالتدريس ، واحترم فيهم العقلية الجادة والتفكير السليم واحترام الإنسان وتقديس
العمل وكان قد التقى خلال وجوده فى الكلية الحربية بعدد من الشباب العربى والأتراك
الساخطين على الحكم العثمانى من بينهم نورى السعيد ، جعفر العسكرى ، مصطفى كمال
أتاتورك ، وكان أتاتورك قد كوّن (جمعية الوطن) عام 1906م ثم انضمت هذه الجمعية إلى
جمعية ( الاتحاد والترقى )التى كانت تهدف إلى خلع السلطان عبد الحميد ، وإقامة
دولة تركية ديمقراطية وهى الجمعية التى كان عزيز المصرى عضوا فيها وانتهت جهود
الجمعية بثورة شاملة عام 1909م أسفرت عن عزل ونفى السلطان عبد الحميد وتعيين
السلطان محمد الخامس بدلا منه .
بعد استيلاء الاتحاديين الأتراك على امور البلاد ، دب الخلاف بينهم
وبين الضباط العرب الذين كانوا يأملون فى الحصول على نوع من الحكم الذاتى لبلدانهم
، فلما لم يتحقق ذلك بدأت الدعوة إلى العروبة يشتدّ عُودها وكان لعزيز المصرى دور
كبير فى هذه الدعوة ، فاختاره الضباط العرب لقيادتهم . انفصلت العناصر العربية عن
جمعية (الاتحاد والترقى) وكوّن عزيز المصرى جمعية (القحطانية) إلا أن ثورة اليمن
ضد الحكم العثمانى قامت عام 1911م وذهب عزيز المصرى على راس الجيش التركى لقمع
الثورة وتمكن من حقن دماء الطرفين بعقد صلح مع يحيى حميد الدين إمام اليمن ، ثم
سافر عزيز المصرى بعد ذلك إلى ليبيا لمحاربة الإيطاليين .
عاد المصرى إلى الآستانة سنة 1913م فى وقت بلغ العداء والاضطهاد
التركى للعرب ذروته ، فاستقال من الجيش وتفرغ للعمل ضمن صفوف الحركة العربية وأسس
فى العام ذاته بالتعاون مع مجموعة من الضباط العرب ( جمعية العهد ) التى ضمت فى
عضويتها 315 ضابطاً عربيا وكان برنامج ( جمعية العهد ) يقوم على إنشاء اتحاد
فدرالى يضم كل الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية ، بما فى ذلك مصر والسودان وطرابلس
والمغرب وتونس على أن تنشىء كل قومية فيها كيان إداريا مستقلاً ويكون السلطان
العثمانى رئيساً رمزياً لا فعلياً للاتحاد . وتزايد النشاط القومى لعزيز المصرى مما دفع السلطات التركية لاعتقاله
فى فبراير عام 1914م وقدمته للمحاكمة ناسبة إليه عدداً من الاتهامات الباطلة وحكمت
علية المحكمة العسكرية التركية بالإعدام ، وهو ما أثار حركة معارضة قومية فى كافة
الأقاليم العربية ووصلت البرقيات والخطابات من جميع أنحاء العالم العربى ، تطلب من
السلطان محمد رشاد محاكمة أنور باشا الذى كان وراء المحاكمة وان يطلق سراح البطل
(عزيز المصرى) . وكتب أمير الشعراء احمد شوقي قصيدة إلى السلطان يشيد فيها بعزيز
المصرى بطل اليمن وليبيا ، ومنها قوله : بالله ، بالإسلام، بالجرح الذى - ما انفك فى جنب الهلال يسيل ألا
حللت عن الأسير وثاقه - إن الوثاق على الأسود ثقيل واضطر السلطان محمد رشاد إلى
الإفراج عن ( عزيز المصرى) الذى عاد إلى مصر إلا أن الثائر لا يهدأ ، فالمصري لا
همّ ولا تفكير له إلا وحدة العرب واستقلالهم . وأعلن الأميران ( على وفيصل ) نجلا
الشريف حسين فى 5/6/1916م استقلال العرب من الحكم التركى ، واشتعلت شرارة الثورة
العربية فى الحجاز ، فسافر( عزيز المصرى) إلى هناك للإسهام فى تنظيم الجيش العربى
، وعينه الشريف حسين وكيلاً لوزارة الحربية ، وقائدا لجيش العرب ، فحقق إنجازات
كبيرة فى بناء الجيش وقيادته نحو النصر .
كانت دسائس الإنجليز سبباً فى حدوث الخلاف بين (عزيز المصرى) والشريف
حسين ، لان المصرى رفض مراراً عروض الإنجليز بالتعاون معهم ، وكان يعرف حقيقة
أطماعهم فى البلاد العربية ولذلك ما أن وصل إلى القاهرة حتى بدأت مضايقاتهم له
خاصة بعد أن رفض التعاون معهم فى العراق ، واليمن التى عرضوا عليه أن يكون ملكاً
عليها ، فرد عليهم بقوله :" كيف اجلس على عرش اليمن ، وهو ُملك لأهله وليس
ُملكاً لكم " وسافر إلى أسبانيا منفياً وكان هذا الإجراء متوقع بعد أن فشلت
محاولاتهم لإقناعه بالانضمام أليهم . ومن أسبانيا سافر( عزيز المصرى) إلى ألمانيا بعد انتهاء الحرب
العالمية الأولى وفى ألمانيا عمل ( عزيز المصرى) مدرساً فى كلية أركان الحرب ، حيث
كان يدرس تجربته فى حربه ضد البلغار ، وأسلوب حرب العصابات الذى ابتدعه وسط
المناطق الجبلية ووسط الصحراء والغابات فى ليبيا ضد الإيطاليين .
ظل البطل ( عزيز المصرى) منفياً عن بلاده حتى عاد إلى مصر سنة 1924م
بعد أن وصل حزب الوفد إلى الحكم وبعد شهور قليلة من عودته تلقى رسالة من صديقه
وزميله فى الجيش العراقي الضابط ( ياسين الهاشمى ) الذى أصبح رئيسا لوزراء العراق
ن يطلب منه سرعة التوجه إليه فلبّى الدعوة ، حيث التقى بالعديد من رجال ( جمعية
العهد) الذين كانوا ضباطاً عراقيين فى الجيش العثماني ثم جاءوا للعمل فى الجيش
العراقي . أخبره (ياسين الهاشمى ) أنه يفكر فى القيام بانقلاب عسكري فى العراق
وتحقيق حلمه القديم بجعل بغداد نقطة الانطلاق كبلد عربي مستقل تكون البداية لتحرير
البلاد الأخرى وطلب منه مساعدته على وضع الخطة المناسبة ولم يسترح الإنجليز لوجود
( عزيز المصرى) فى العراق فاستدعاه المندوب السامي البريطاني وسأله عن سر وجوده
فردّ عليه عزيز عما يفعله هو فى العراق وهو الانجليزى الاجنبى ، بينما عزيز يعتبر
وجوده فى العراق ،وطنه العربي ، أمراً طبيعياً لا يسأل عنه .وعرضوا عليه تعيينه
رئيساً لشركة نفط العراق براتب قدره خمسة آلاف جنيه ، وبيت أنيق فى لندن ، ولكنه
رفض ، فصدرت الأوامر بإبعاده عن العراق. وعاد ( عزيز المصرى) إلى القاهرة عام
1926م .
وتقديراً لدوره الوطني والقومي واعترافاً بعبقريته العسكرية اختاره
محمد محمود باشا رئيس الوزراء المصرى عام 1928م مديراً لكلية الشرطة فاستحدث فيها
أساليب جديدة فى التعليم والتربية واختار أعضاء هيئة التدريس من بين الضباط
الأكفاء فى مصر وأصبح لهذه الكلية صيت واسع نظراً لما بذله (عزيز المصرى ) من جهد
واضح وما عرف عنه من الحزم والجدية وعبقرية التنظيم والإدارة والمعرفة الموسوعية
مما أثار إعجاب الملك فؤاد ملك مصر .
اُّعجب الملك فؤاد ( بعزيز المصرى ) وبما أحدثه فى كلية الشرطة
فاختاره أن يكون الرائد الأول للأمير فاروق ولى العهد .
رقى إلى درجة الفريق وعين مفتشاً عاماً للجيش المصرى ليكون أول مصري
يشغل هذا المنصب لكن قدر (عزيز المصرى ) أن يكون ثائراً باستمرار بعد أن عزله
الإنجليز من منصبه الذى لم يقض فيه أكثر من سنة .
كانت المحطة الأخيرة فى حياة (عزيز المصرى ) العسكرية والسياسية هى
ارتباطه بالضباط الأحرار وكان أنور السادات أول من التقاه من الضباط الأحرار حيث
كان يزوره فى بيته ضمن غيرة من شباب مصر الذين كانوا يناقشونه فى امور البلاد
السياسية وكان تنامى إلى علمه وجود تنظيم شاب فى الجيش يعمل على تخليص البلاد من
الملك والإنجليز وان السادات ضمن هذا التنظيم .
وأصبح أنور السادات ضابط الاتصال بين (عزيز المصرى ) والضباط الأحرار
وقرر أن يكون الأب الروحي لهم ونصح جمال عبد الناصر بعد نجاح الثورة بعدم محاكمة
فاروق والاكتفاء بتنازله عن العرش. وعرفاناً بجميله وأبوته الروحية لهم اختارت الثورة الفريق (عزيز
المصرى ) ليكون أول سفير لهم فى الاتحاد السوفيتي ليعمل على إعادة تسليح الجيش
المصرى، وظل رغم تقدم العمر به متابعاً أحوال الوطن حتى وافاه الأجل فى 15
يونيو 1965م .