١٩‏/٩‏/٢٠١٢

ثقافة المواطنة


ثقافة المواطنة
بقلم د.السيد نصر الدين السيد
أستاذ ادارة المعرفة السابق بجامعة كونكورديا- بكندا


لقد شهدت العقود الأخيرة تآكلا حادا فى أركان المواطنة الثلاثة، “الإنتماء” و”المشاركة” و”المساواة”. فقد عانى الركن الأول “الإنتماء”، على سبيل،  من مرض مزمن لانجد له إسما أفضل من إسم “تسيد ثقافة الملة”. وهو مرض تتنوع أعراضه ما بين مناوشات كلامية على الإنترنت وإحتقانات طائفية على أرض الواقع ما نكاد نتجاوز أحداث واحدة منها حتى تدهمنا أحداث واحدة أخرى. وثقافة الملة هذه هى الثقافة التى تعلى من شأن الإنتماء للملة على حساب الإنتماء للوطن فيتآكل مفهوم المواطنة ويتضاءل تأثيره فى المجتمع. وتنبع خطورة هذا المرض فى كونه يتعلق بوحدة وتماسك الكيان المصرى الذى لم يعرف أية تشققات أو تصدعات فى بنيته منذ نشأته كأول “أمة – دولة” فى تاريخ الإنسان على أيدى الفرعون مينا منذ أكثر من خمسة آلاف سنة. فقد كان تماسك وتجانس الكتلة البشرية للأمة المصرية عبر تاريخها الطويل واحدا من أهم الملامح الفريدة التى تميزت بها هذه الأمة. فهى الأمة التى إبتدعت مفهوم “الوطن” الذى ينتمى إليه كل أفرادها ويدينون له بالولاء فتجاوزت بذلك ضيق الإنتماء إلى القبيلة والعشيرة أو الطائفة الذى مازال يحكم سلوك العديد من الأمم
أما سبب هذا المرض فهو ما يتبناه البعض من نظرة تجزيئية/تقطيعية لتاريخ الوطن فتنظر إليه وكأنه سلسلة من الحقب المنفصلة عن بعضها البعض كل منها مقطوع الصلة بمن يسبقه ولاتأثير لأى منها على مايعقبه. وهى بذلك تهمل إهمالا مريبا عناصر الإستمرارية والتواصل فى تاريخنا الطويل. وهى العناصر التى ترتكز على المقومات المؤسِسة والثابتة للأمة المصرية بدءا بـ “الموقع” بإطلالته على البحرين الأبيض والأحمر وإمتداده عبر قارتى آسيا وإفريقيا وإنتهاءا بـ “الموضع” بنيله وواديه. وهكذا يختزل أصحاب هذه الثقافة تاريخ الوطن إلى حقبة واحدة ويتجاهلوا الموروث الحضارى والثقافى لبقية االحقب. وهو الموروث الذى يتبدى على سبيل المثال فى لغة حديثنا اليومية (إمبو، مم، بخ …) وفى الكثير من عاداتنا مثل إحياء ذكرى الأربعين. وهكذا يتناسى أصحاب هذه الثقافة مايذكره لنا تاريخ مصر المكتوب الذى يتجاوز 52 قرن (3200 ق.م – 2010 م). فلقد شهد هذا التاريخ أربعة عصور (أو حضارات) رئيسية. وأول هذه العصور هو “عصر التأسيس” الذى غطى الـ 29 قرن الأولى من عمر الأمة (3200 ق.م – 332 ق.م) أى مايعادل 56% من تاريخها. وهو العصر الذى تشكلت فيه النواة الصلبة للهوية المصرية نتيجة لتفاعل الإنسان المصرى مع بيئته الطبيعية موقعا وموضعا. ثم كان العصر الثانى “العصر الهلينستى” الذى تزاوجت فيه حكمة المصريين مع فلسفة اليونانيين وإستمر ثلاثة قرون (323 ق.م – 30 ب.م) ليمثل 6% من تاريخ الأمة. وأعقب هذا العصر “العصر المسيحى” الذى أثرى الهوية المصرية بما بشر به السيد المسيح وإستمر حوالى 6 قرون (33-640 م) أو مايعادل 12% من عمر الأمة. ثم جاء “العصر العربى/الإسلامى” الذى عرب لسان المصريين وأثرى هويتهم بتعاليم الإسلام وإمتد 14 قرن منذ فتح العرب لمصر سنة 640 وحتى يومنا هذا ليشكل بذلك 27% من تاريخ الأمة
ومكمن الخطورة فى هذه النظرة أنها تفضى إلى رؤية أحادية البعد للكيان المصرى. وهو الكيان الذى نشأت شخصيته وتطورت عبر مئات القرون كمحصلة لتفاعل حضارات مختلفة، فرعونية (مصرية قديمة) ويونانية وقبطية وإسلامية وحديثة، تمثلتها الأمة وهضمتها لتفرز خصوصيتها المتميزة. فهكذا تشكل الكيان المصرى لتكون شخصيته شخصية مركبة ومتعددة الأبعاد، ولكن فى وحدة وتكامل غير منقوصين. وهذا التعدد هو فى حقيقة الأمر هو رصيد قوتها الكامنة والمتجددة، وهو سر قدرتها على البقاء وتجاوز الأزمات، وهو محرك آلياتها للإبداع وللتكيف مع الجديد. وأى رؤية تختزل أبعاد هذه الشخصية إلى بعد واحد ليست فى نهاية الأمر إلا خصما من هذا الرصيد
إن الإعتراف بـ “مصرية المصريين” لايعنى “الفرعونية”، كما يحلو للبعض تسميتها …!، أو إعادة إنتاج إحدى مراحل التاريخ المصرى القديم، أو “الإستعلاء” على الآخر والتفاخر الكاذب والمضلل، أو “الإنعزال” عما يدور فى المنطقة التى توجد مصر فيها من أحداث والإنكفاء على نفسها. ولكنه يعنى أهمية أن نأخذ فى الإعتبار ثراء وتنوع مكونات الكيان المصرى الذى تقوم عليه “قوة مصر الناعمة”. هذا بالإضافة إلى الإعتراف بـ “تمايز”، وليس “تميز”، الأمة المصرية عن غيرها من الأمم. وأخيرا فهو يعنى ضرورة التفاعل الإيجابى المؤثر والفعال مع مايدور فى منطقتنا من أحداث طبقا لما تمليه المصالح العليا لمصر، أو إنطلاق من مرجعية مصرية خالصة.